على مدى العقود، ظلّت عاشوراء منارةً تهدي الأجيال، ومصدرَ إلهامٍ يغرس في النفوس معاني الإباء والتضحية. وقد شكّل الإحياء العاشورائي، بما يحمله من بُعد روحي وتربوي، وسيلة متجددة لترسيخ قيم النهضة الحسينية الخالدة.
في هذا السياق، قدّمت جمعية كشافة الإمام المهدي (عج) تجربة فريدة ورائدة في إحياء عاشوراء تستهدف الناشئة، انطلقت منذ منتصف تسعينات القرن الماضي، وتحوّلت مع الزمن إلى مشروع تربوي متكامل يجمع بين حرارة العاطفة وأصالة الفن الملتزم، ويأخذ بعين الاعتبار الخصائص النفسية والعمرية للفتية والفتيات.
وقد تطوّر هذا المشروع بشكل لافت، من حيث الرؤية والتنظيم والمحتوى والوسائل والاساليب، حتى غدا نموذجًا يُحتذى في ميدان الإحياء العاشورائي التربوي.
يرصد هذا المقال أبرز محطات تطوّر هذه التجربة الرائدة، ويستعرض أدواتها، وتحدياتها، وآفاقها المستقبلية.
بدأت فكرة الإحياء العاشورائي للناشئة في منتصف التسعينات، بناءً لمبادرات من بعض الأفواج، استجابةً لحاجة تربوية ملحّة تمثلت في إشراك الأطفال والفتية في هذه المناسبة المقدسة بأسلوب يناسب أعمارهم واهتماماتهم.
وقد ساهم في تنفيذ هذه المبادرة حرمان الناشئة من حضور مجالس الكبار، الذين كانوا يمنعون من دخول قاعة المجلس الحسيني بحجة أنّهم أطفال، وأن قدراتهم الفكرية عاجزة عن استيعاب وفهم كنه الملحمة الحسينية وأسبابها وأهدافها.
وعندما كبر بعض هؤلاء الفتية وأصبحوا قادة كشفيين، قرّروا تخصيص يومٍ عاشورائي خاص بالصغار، يراعي خصوصياتهم الفكرية والعاطفية. ومع نجاح التجربة، توسّعت الفكرة تدريجيًا، وتحولت من مبادرة محلية إلى نشاط موسمي منظّم، ثم إلى مشروع مركزي مُعتمد، حيث صدر في العام 2003 أوّل تعميم كشفي مركزي يدعو جميع الأفواج إلى تنظيم مجالس حسينية خاصة بالناشئة في مختلف المفوضيات، ودعوتهم الفاعلة للمشاركة فيه.
شهدت البرامج والأنشطة العاشورائية في الجمعية مسارًا متدرجًا من التطور الكمي والنوعي، حيث انطلقت التجربة ببرنامج يقتصر على مجالس مبسّطة، وتحوّلت تدريجياً إلى برامج إحياء عاشورائي نموذجية متكاملة، تشمل فقرات تربوية وفنية متنوعة، وتُنفذ باستخدام تجهيزات وأدوات ولوازم مخصصة للإحياء.
رافق هذا التطور اعتماد رؤية موحدة تمّت بلورتها عبر لقاءات تحضيرية ومؤتمرات سنوية، أثمرت صدور أدلة متخصصة كان أولها دليل "مصباح الهدى" عام 2003، ثم دليل "مدرسة الأجيال" عام 2006 الذي طوّر محتوى الدليل السابق بناءً على التقييمات الميدانية. وتوالت بعد ذلك الإصدارات الثقافية والفنية، لتشمل متون المجالس الخاصة بالمراحل، القصص العاشورائية، اللطميات الحسينية، والنصوص المسرحية، وغيرها.
وعلى الصعيد الفني، فقد تطوّر العمل الفني العاشورائي من عروض ومشاهد مسرحية بسيطة في البدايات، إلى أعمال مسرحية متميزة، ففي العام 1997م تم عرض أوّل مسرحية عاشورائية "القربان"، لتكون فاتحة الأعمال المسرحية التي تطوّرت بشكل متصاعد، وصولًا إلى عروض احترافية تم إعدادها وعرضها في السنوات الأخيرة، مثل: "قطرة ماء" و"رحلة السنونو" و"ورد"، و"ياسين"، و"جود".، و"يحي" .. وقد توسعت مجالات الفنون في الاحياء العاشورائي تدريجياً لتشمل: المرسم العاشورائي، والبانوراما العاشورائية، وراوي القصة العاشورائية، ومسرح الدمى، والفنون التعبيرية المتنوّعة.
أما على الصعيد الإعلامي، فقد بدأ تطوير الهوية الإعلامية للإحياء منذ العام 2001 بإطلاق "الحصة الإعلامية العاشورائية"، التي تضم موادّ مطبوعة من منشورات وبوسترات ورايات، وقد تطور هذا الجانب تدريجيًا في الأعوام اللاحقة من حيث الشكل والمضمون، ليشمل التغطية الإعلامية والتقارير المتنوعة، فضلًا عن تنظيم الإطلالات الإعلامية الخاصة بالإحياءات.
وفي مجال الخدمة المجتمعية، تطورت مساهمة الفتية من أنشطة لوجستية بسيطة إلى تشكيل فرق خدمة منظّمة، تُعنى بالنظافة، وتوزيع الضيافة، والمساعدة في الارشاد والتنظيم واقامة المضائف، وغير ذلك.
وعلى الصعيد الكمّي فقد تضاعف عدد الأفواج المشاركة من عدد محدود في التسعينات إلى 757 فوجًا في العام 2024، كما ارتفعت أعداد المشاركين من العشرات إلى الآلاف في السنوات الأولى، لتبلغ 76,179 في العام 2024، ما يعكس الانتشار الواسع والنجاح المتراكم لهذا المشروع.
- في العام 2003م عقدت الجمعية المؤتمر العاشورائي التأسيسي الأوّل الذي رفع شعار "عاشوراء مدرسة الأجيال"، نتج عنه تبنّي الجمعية بشكل رسمي مشروع إحياء عاشوراء للأطفال والناشئة.
بعد مرور أسبوعين على المؤتمر، وعملاً بالتوصيات التي خرج بها، أصدرت مفوضية التدريب والبرامج أول متن عاشورائي بعنوان"مصباح الهدى"، تضمّن برنامج مراسم إحياء عاشوراء للأطفال والناشئة.
- في العام 2004م عقد المؤتمر العاشورائي الثاني تحت شعار "الحسين مصباح الهدى" وكان استكمال للقاء الأول، تم فيه التركيز على تطوير البرامج.
- في العام 2005م عقد المؤتمر العاشورائي الثالث تحت شعار "لبيك يا حسين" وكان مخصصًا لعرض التجارب الناجحة للأفواج في الاحياء العاشورائي، وصدر فيه مجموعة من التوصيات.
بعد المؤتمرات الثلاثة اصبح المشروع اكثر وضوحًا ورسوخًا بأهدافه وبرامجه وأنشطته، وبعدها تمّ اعتماد اللقاءات على مستوى القطاعات بهدف اطلاق الخطط والتحضيرات، ومتابعة وتطوير الأداء.
- في العام 2022م عقد المؤتمر العاشورائي الرابع، حيث تم خلاله استعراض "المقاربة التربوية الثقافية للإحياء العاشورائي للأطفال والناشئة"، وأصدرت اللجان المتخصصة توصيات تطويرية على مستوى الخطاب ومضامين وأساليب الإحياء.
وقد أقيم المؤتمر برعاية وحضور سماحة الشهيد السيد هاشم صفي الدين (رض)، الذي أكد على أهمية الإحياء العاشورائي الذي تقوم به الجمعية، وما يشكّل من ركيزة أساسية في عملية التربية الثقافية والدينية المرتكزة على الإقتداء بأهل البيت (ع) بما في ذلك الربط بين الإمام الحسين والإمام المهدي (عليهما السلام)، كما قدّم سماحته (رض) حينها مجموعة من التوجيهات والتوصيات التربوية والثقافية العاشورائية.
إنّ أبرز التحديات التي واجهت مشروع الإحياء العاشورائي:
إلا أنه وبحمد الله، فقد تم تجاوز كل هذه التحديات، وأثبتت تجربة الإحياء العاشورائي للناشئة في الجمعية على مدى أكثر من 25 سنة نجاحها الباهر، وتراكمت فيه تجربة ممتازة وواعدة، بالإضافة إلى تحقيق العديد من الإنجازات، أهمها:
شهد برنامج الإحياء العاشورائي منذ انطلاقته تقييمًا وتطويرًا في المضمون والوسائل والاساليب، كان أهمها في السنوات الأخيرة:
تتطلع الجمعية إلى تطوير الإحياء العاشورائي في المستقبل من خلال:
لقد أثبتت تجربة الإحياء العاشورائي في جمعية كشافة الإمام المهدي (عج) خلال أكثر من ربع قرن أنها مشروع تربوي رسالي متكامل، وُلد من رحم الحاجة، ونما بتضحيات مخلصة، مستمدًا وهجه من كربلاء.
هذه التجربة رسّخت الهوية الحسينية في وعي الأطفال والناشئة، وجعلت من المجالس بوابة لغرس القيم والالتزام، حتى تحوّلت إلى نموذج يُحتذى، يجمع الفكر والعاطفة، وبين الفن والروح، وبين التنظيم والرسالة.
ومع هذا النجاح، تقع مسؤولية مواصلة التطوير والتجديد على عاتق القادة والمربين، بأن يحملوا هذا المشروع نحو مستقبلٍ أكثر إشراقًا وتأثيرًا، ليبقى الإحياء حيًا وفاعلًا في وجدان ووعي الأجيال، ويظل سيد الشهداء الإمام الحسين (ع) نبراساً للهداية.
والحمد لله رب العالمين